الأربعاء, 09/03/2016 - 14:14
قصة بقلم: ابراهيم عثمان
الاهداء : الى روح الروائي الكبير الطاهر وطار
انتفض مذعورا.. أمسك بجدران المنزل المنهار وراح يقفز من حجر الى آخر.. رأى صورته مرمية تحت كومة من الحجارة والرمال.
رفعها بيده اليمنى وأجهش بالبكاء:ــ هذه صورتي أيتها السماء ماتزال شاهدة على تلك الغارة النكراء التي شنها العدو على مدينتنا الآمنة.. أذكر ذلك جيدا أيتها
السماء.. أذكر ذلك أيتها السماء !.
يومها كنت صبيا في العاشرة من عمري عندما توفت والدتي المسكينة ... مريم السيبوسية
الأربعاء, 09/03/2016 - 14:14
قصة بقلم: ابراهيم عثمان
الاهداء : الى روح الروائي الكبير الطاهر وطار
انتفض مذعورا.. أمسك بجدران المنزل المنهار وراح يقفز من حجر الى آخر.. رأى صورته مرمية تحت كومة من الحجارة والرمال.
رفعها بيده اليمنى وأجهش بالبكاء:ــ هذه صورتي أيتها السماء ماتزال شاهدة على تلك الغارة النكراء التي شنها العدو على مدينتنا الآمنة.. أذكر ذلك جيدا أيتها
السماء.. أذكر ذلك أيتها السماء !.
يومها كنت صبيا في العاشرة من عمري عندما توفت والدتي المسكينة في حادث مرور مروع.
كانت تسير مسرعة هربا من القصف العشوائي ،وهي تصرخ :
-لطفك يا رب.. لطفك يا رب.. ماذا أفعل إذا وجدت أبنائي قد قتلوا جميعا؟.
عندما أحس والدي بجوعي العاطفي الى حنان أم.. اشترى لي عنزة بيضاء وتركني أرضع ثديها بدلا من أن يأتيني بمربية .
ازداد حزنا وغيضا عندما تذكر مشهد الطائرات وهي تحلق فوق مباني المدينة.. ظل صامتا لمدة طويلة.. ذرف دمعتين حارتين، أذهل بصمته جدران المنزل الذي رأى فيه النور لأول مرة، وقرأ فيه أجمل الابداعات الشعرية والنثرية، وغازل بالقرب من جنينته مريم السيبوسية التي ترعرعت هنا بين أمواج سيبوس وخضرته اليانعة.
كان الناس في المدينة التي أخذت اسم سوقها الذي يعقد كل يوم سبت ينادونه بابن العنزة البيضاء، وينادون مريم بابنة سيبوس.
يقال وهذا ما حدثني به الرواة.. أن والدتها قد سكنت سيبوس عندما حملت بها من رجل قدم من عدن قبل أن تتسلل جماعة من المعمرين قادمة من باريس لتعمر كدية مانع التي تقابل كدية الدندان الذي اشتهر بين أولياءها الصالحين بأبوابه السبع.
ويقال أيضا أن الدندان صاحب الأبواب السبع تخاصم مع سيدي حميدة من أجل لالة مرة فتضاربا بكرات من الحديد عن بعد .
اختار وادي سيبوس أن يكون محطته الاولى للاقامة، ومن بساتين الحمضيات المغروسة من حوله مرابع للعشق والعبادة والعمل.
تعالت الاصوات من هنا وهناك، بعضها يردد ابتهالات متشنجة، وبعضها الآخر ينتحب وهو ينقب تحت الركام عن ذكرى منزل عفا وآخر مازالت به أرواح تحتضر.. ازدادت وحشته، عندما رأى هامات الاشجار تقفز منتصبة أمامه في تحد وكبرياء وكأنها تحاول أن تقف في وجه طائرات العدو، وهي تلقي بسمومها على المباني والابرياء.
سأل نفسه عدة مرات: ــ لماذا أنا وحدي من يبكي الدياروالاحرار؟. أين الأصدقاء ؟.. وأين خلان الوفاء الذين كانوا يتغنون بالوحدة والاشتراكية والأنتماء الديني والقومي؟.. أين ذهبوا يا إلهي؟.
ازداد حزنا عندما تذكر أسماء بعض الشهداء ممن كانوا يحلمون بثورة غاية في التحضر والتحرر والحداثة.. اتكأ على جسمه في عياء شديد وصرخ بأعلى صوته:..ــ أيتها السماء كيف أكون قبل أن يشتد بي الجنون؟.
اشتاق الى شربة ماء يبلل بها ظمأه .. قطرة ماء تنبع من أعالي وادي سيبوس وأخرى من النيل ودجلة والفرات ونهر قاسيون.. اهتزت أوصاله وهو يستفرغ من جوفه تلك الفضلات التي سممت روحه وفكره وخياله.
انغرس في الارض دافنا رأسه كالنعامة تحت الرمال، لعله يتمكن من النجاة من الطمي الذي تحدثه المجاري المائية المندفعة نحو سيبوس.
رفع رأسه عندما أحس بهدوء العاصفة .. رأى شجرة التوت التي تهالكت بالقرب منه.. اقترب منها مسندا ظهره الى جذعها المتماسك ، سألها عن مريم السيبوسية إن كانت لتزال تعشق أكل التوت والحوت وشرب الماء والزيوت.
وبلهجة غارقة في الرمزية والتصوف ردت عليه:
ـ إن مريم تعشق التوت عندما تكون بين يدي الموت.
ثم أردفت قائلة:
-تشبث بزرقة السماء يا أخي، لعلك تمنع أسراب الزرازير من الهجرة الى الشمال على عكس الطيب صالح الذي أرادها معركة انتقام وإلهام في آن واحد .
اندهش من زقزقتها وزقزقة العصافير التي ضلت طريقها، وهي تتنقل بين الفصول، عازفة سيمفونية عشقها الموله للطبيعة وللجبال والاطلال والاودية.
تراجع عن قراره الاول، قبل أن يرتفع عويل الرياح مزمجرا بين الصخور والفجاج.. ارتعدت أطرافه من شدة البرد.. انكمشت خطاه وهو يمدها باتجاه الجسر المعلق الذي كانت تأتيه مريم السيبوسية ليلا، لتلقي نظرة على مياه وادي سيبوس، وهي تنساب ليلا متجهة نحو البحر الابيض المتوسط، لعلها تروي لها قصة عشقها للماء والهواء والخضرة والنماء.
ازداد شوقه لمريم السيبوسية.. امتلأت عيناه دموعا، ورثاء لتلك السنوات التي قضاها بين هذه الباحات والشوارع متسكعا، وبين هذه الحقول والجبال والاودية والسهول الملتاعة من شدة الحزن.
تذكر من جديد عشيقته الحسناء التي يقال أنها أدارت ظهرها للرجال، وسكنت سيبوس، لتستمتع بالماء والهواء والاشجار والحيتان، باحثة عن الحب والامان ومتعة الاشواق والتحنان.
كانت عندما تبلغ ذروة الانتشاء، تصنع له من ثديها مواسم للفرح، وأخرى للترحال من حال الى حال والهيام في تضاريس أنوثتها الشامخة شموخ جبال ماونة وهوارة وإيدوغ والهقار والأوراس وبني شقران.
لذلك فانه كلما عاد بذاكرته الى الوراء..تذكر رحلة جنونه وحنينه.. تذكر صوفية الازمنة وشعرية الامكنة وشهقة الروح المنبعثة من قلب الصخور والكهوف.. تذكر تلك المدن التاريخية التي زار متاحفها وعاكس بناتها، وسكن قلوب نسائها، واستمتع بقراءة ابداعات كتابها وشعرائها، وتزين بألوان لوحاتها الزيتية التي أقل ما يقال عنها أنها تعلن في كبرياء عن ميلاد موهبة حرة ستمزج الماء والهواء بالاعشاب، والتربة بالنجوم والاودية والسهول ، لترسم وجه مريم السيبوسية، وهي تتسربل بالجبال وتسافر بين الجنوب والشمال، لتغازل وجوها تتزين بلغة فيها من سحر بيان الشرق ما يجعلها تقف في كبرياء أمام عيني حسادها مندهشة من نفسها وهي تعانق بقوامها السحاب والاحباب.
تفحص في صمت سجل تلك الحضارات الانسانية التي تعاقبت على هذه الرقعة الجغرافية الممتدة بين الارض والسماء. راح يتهجأ بعض الحروف المنتشرة هنا وهناك.. صرخ من أعماقه عندما اكتشف في كدية سيدي مانع نسرا بالقرب من ضريح هذا الولي الصالح، نقش على جناحيه اسم مريم السيبوسية.
يومها مادت به الجبال واهتزت المدن وتصدعت الصخور، وانسابت الاودية بين السهول والكهوف، معلنة عن ميلاد امرأة أخرى،، كانت أشبه بتفاحة معلقة في رأس جبل، وكان عليه أن يتسلق هذا الجبل، وعلى ظهره تلك الصخرة التي أعيت سيزيف من قبله.
هذه مريم السيبوسية التي تميزت بالعبقرية والدهاء، وتلك قصتها التي تشبه خريطة وطن اشتهر بجغرافيته التي ورثت طبيعتها عن ابتسامة امرأة، قاتلت من أجل أن تظل شامخة تبارك بكبريائها جرجرة والأوراس وماونة وهوارة وبني صالح.
عندما وصل الى كدية مانع قادما من عدن، قررأن يتحبس عند ضريح هذا الولي.. أقام على حضرته زردة دعا لها أعيان المدينة من علماء وفقهاء ومتصوفة.
يومها ارتدى برنوسا صوفيا وركب جوادا أبيض، وصاح في الناس:
ــ يا سكان هذا الوادي.. لقد جئتكم ببشارة من صدقني فهو صادق ومن كذبني فهو كاذب.. عند مروري بمدينة القيروان قال لي أحد شيوخها الكرام، عندما تصل كدية مانع أقم بها سبعا، وأن لا تكلم الناس سبعا، وأن تنكح من نسائها سبعا، وأن تنجب من كل إمرأة سبعا، لينتشر نسلك على الأرض سبعا سبعا.
وقبل أن ينتهي من خطبته العصماء، مرقت من بين الصفوف امرأة وأمسكت بلجام جواده صائحة:
ــ أيها الناس أشهدوا أني سأكون لهذا الرجل بعد أن يصل العدد الى رقمه الاخير.
ازدادت حيرة الناس فيما بينهم ، فأخرجوا خريطة أول معمر قدم من باريس ، لمقارنتها بخريطة أوليائها الصالحين الذين أقاموا على تضاريسها التي اشتهرت بجمالها وسحرها وعذوبة نسائها ورجولة رجالها مزارتهم وأوطانهم الصوفية .
ودون أن يسأل استوطن مدنا تهاجر خوفا من اكتساح قبابها ومآذنها وأجراسها، وخوفا من عشاقها الذين باتوا يفتون بجواز أكل الفخذ والساق والنهود والارداف والتصدق بالجلود على الفقراء والمساكين.
وقبل أن يتأكد من رعونة اختياراته.. استسلم لبعض الانباء الكاذبة التي أخذت تروج عنه سقوطه في سبات عميق، أشبه بسبات الضفادع والثعابين شتاء، متناسيا أن الذين تطاولوا على مقامه، يدركون جيدا بأنهم مجرد حشرات يستهويها العيش في المستنقعات والبرك والاوحال.
عاد الى الجدران ينقب عن صوره الاولى .. راح يتحسس بعض أجزائها، لعله يعثر على رائحة تقوده الي بعث طفولته من جديد . مسك بفرشاة أسنانه، لينفض عنها غبار تلك السنوات الاليمة التي أمضاها متنقلا بين دجلة والفرات حضرموت، وبين النيل وقاسيون لعله يعثر على مريم السيبوسية وهي تجدف نحو الشمال لتتفادى رائحة الاقتتال.
قصة ابراهيم عثمان أظهر الكل ..
تحميل ..
نُبْذة
Ibrahim Othmane
@ibrahimothmane
عضو 2016-03-09 19:42:38
المكتبة مشاهدة الكل
لا كتب لحد الآن في هذه المكتبة
المتابِعون (7)
مشاهدة الكل
المتابَعون (1)
مشاهدة الكل