بالنسبة لي، كان شقيقي "خالد" هبة
ربانية خالصة، صحيح أنني لم أختره كشقيق، ولكنني اخترته صديقا، بل
ومؤمن تماما بأنه أفضل صديق يمكنني إيجاده، من أين سأجد صديقا يقع
قبلي في المطبات، ويدافع عني عندما أخوض شجارا، لأكتفي بتشجيعه، يعبر
بي الشارع، يتقاسم معي أغراضه وأسراره؟ وأنا الذي كنت أتوارى من والدي
حتى لا أخرج صحبته وأشقائي "للدهورة" مفضلا الرسم
والمطالعة؟
في الوقت الذي أبدد فيه "مصروفي" من أجل شراء دفتر رسم وأقلام وألوان أو القصص لأبقى مفلسا على ال ...
بالنسبة لي، كان شقيقي "خالد" هبة ربانية خالصة، صحيح أنني لم أختره كشقيق، ولكنني اخترته صديقا، بل ومؤمن تماما بأنه أفضل صديق يمكنني إيجاده، من أين سأجد صديقا يقع قبلي في المطبات، ويدافع عني عندما أخوض شجارا، لأكتفي بتشجيعه، يعبر بي الشارع، يتقاسم معي أغراضه وأسراره؟ وأنا الذي كنت أتوارى من والدي حتى لا أخرج صحبته وأشقائي "للدهورة" مفضلا الرسم والمطالعة؟
في الوقت الذي أبدد فيه "مصروفي" من أجل شراء دفتر رسم وأقلام وألوان أو القصص لأبقى مفلسا على الدوام، كان خالد قادرا على توفير مال لإنفاقه من أجل المغامرة، والتخطيط والصبر من أجلها، صحيح أننا لم نتعدى الثمان سنوات تقريبا، وبالكاد نستطيع عبور شارعنا، ولكن الانتشاء بأدرينالين المغامرة كان أقوى منه، ومني بالتبعية، ولولا رحمة المولى، لعجلنا بإصابة والدينا بحزمة من أمراض العصر دفعة واحدة، بدءا من التوتر، مرورا بالضغط والسكري، وانتهاء بالفالج.
"خالد" قرر هذه المرة بأن الوقت مناسب جدا لزيارة معرض طرابلس الدولي، وقرر أنني مناسب لرفقته، يعجبني أنه لم "يشعف" حتى الآن، ولم أكن محتاجا للتفكير المطول، بضعة جارات قررن زيارة والدتي مساء اليوم، انشغالهن ووالدتي، سيوفر زمنا كافيا للخروج والعودة دون أن تشعر بنا، الفشل وارد قطعا، ولكن مغامراتنا دائما من هذا النوع، إما أن تستحقها أو تسحقك.
- اتفقنا.
- اتفقنا.
كعادتي أضع كفي في يده وأنقاد تماما وراءه متأخرا عنه بخطوات، نجري حينا، نعود للسير التماسا للراحة، لنعيد الجري، نقطع أحيانا شوارعا لا أعلم متى تعرفها، يخيل لي أحيانا أنه يشترك مع الطيور المهاجرة في امتلاك بوصلة ما داخلية، لنصل بالنهاية إلى المعرض.
هل شاهدْتَ أو استمعت يوما إلى تحفة "صلاح جاهين" و"سيد مكاوي" الخالدة "الليلة الكبيرة"؟
حسنا، مغامرتنا هذه كانت كذلك بالنسبة لي رغم تواضعها، التسلل مع أسرة ما إلى قلب المعرض، الانتقال بين الأجنحة، وقلبي يخفق انفعالا، التفكير في العواقب أمر حتمي يمكن إرجاؤه حاليا، ثمة "رحلة نغم" تصدح من مكان ما، حتى الآن، شكوك الناظرين تجاهنا لا تتعدى النظرات والاعتقاد بأننا جزء من أسرة ما، ثقة خالد في الحركة وعدم ارتسام علامات الضياع علينا كانت كفيلة بإبعاد أية فضوليين عنا.
الجزء الأكثر إمتاعا يبدأ عند وصولنا إلى مساحة الملاهي، بضعة تذاكر لألعابنا المفضلة "سيارات القابُّو" و"دار الغولة" و"الصحن الراقص"، نجونا بأعجوبة من ترك أي أثر محتمل لإفراغ جوفنا أو تبلل بناطيلنا، ليقرر القائد خالد أن الوقت قد حان للعودة إلى المنزل.
طيلة الطريق إلى البيت، اهتم "خالد" على غير العادة، بالتأكيد على كتمان زيارتنا هذه، لأبادله التأكيد على هذا بشكل قطعي، على سبيل المكافأة، قرر خالد أنني جدير بالتهام "شكلاطة بانيو"، تخيل، عند هذه النقطة، قررت أن أكون جديرا بكل ذرة ثقة، عدد زوار المعرض وذرات الهواء وقطع الشكولاتة والحلوى، سأكون مخلصا كسندباد، قويا كدايسكي، شجاعا كعلي بابا، ودون أن أخبره، كانت خطتي الخاصة بي للكتمان قد تبلورت.
وصلنا إلى البيت، تأكد خالد أنني لعقت الشكولاتة بالكامل دون أثر على شفتاي، هندامي حسن، ما من خطأ والحمد لله، فتح الباب بالمفتاح بهدوء، الأحذية تشي بعدم انتهاء الزيارة، دخلنا، استبدلنا ملابسنا، نلنا متعتين، المغامرة، والنجاة من العقاب.
لاحقا، سمعنا طقوس "هدرزة العتبة"،إيذانا بانتقال الزيارة إلى مرحلة جديدة لا أحد يعلم كم تستمر، ربما تنتهي مع وقت "النجمة"، أو فورا إن كان هناك طفل ما يحتاج رعاية إحداهن، المهم أنهن خرجن بالنهاية، لتطل علينا والدتي باسمة، ملاكين رائعين ودودين، أحدهما يتسلى بالرسم، بينما ينشغل الآخر في "براءة" ما.
خرجت، لألحقها.
- يام. (أي أمي باللهجة الدارجة الليبية).
- نعم مرودة؟
بكل ثقة الكارتون:
- ما مشيناش للمعرض اليوم.
- به، إنت ومن ما مشيتش؟
- أنا وخالد.
لفترة طويلة بقيت لا أعلم حقا، لماذا أدخلتنا إلى "الصالون".
ولا لماذا تحولت أجزاء من أجسادنا لا أود البوح بها إلى اللون الأحمر.
ولا لماذا تلقى "خالد" كل هذه "الحفاوة" بِجَلَد وهو ينظر لي بغضب.
ما الذي قلته ليغضب؟
السؤال الأهم الذي شغلني بدوره:
كيف عرفت أمي بأمر خروجنا؟
أظهر الكل ..سعادة عارمة تغمرنا، سنذهب أخيرا
إلى "تاجوراء" التي تغيبنا عنها طيلة سفر والدي -رحمه الله- إلى مصر،
أخيرا سأنزع حذائي وجوربي وأنطلق حافيا، سألعب، ثم أزور تلك المعلمة
الرائعة، التي تمنحني أوراق الرسم لنرسم معا، ثم نشكل أشكالا جميلة
بطين أصفر نستخرجه خلسة من مواقع حفر "الطريق الجديدة"، هذه السعادة
لم تجعلني أصغ جيدا لوصايا والدتي وسبابتها تعلو صعودا
وهبوطا.
- إياكم ...... الحديث .......... عيب ............... شقاوة .............. البيوت أسرار.
< ...سعادة عارمة تغمرنا، سنذهب أخيرا إلى "تاجوراء" التي تغيبنا عنها طيلة سفر والدي -رحمه الله- إلى مصر، أخيرا سأنزع حذائي وجوربي وأنطلق حافيا، سألعب، ثم أزور تلك المعلمة الرائعة، التي تمنحني أوراق الرسم لنرسم معا، ثم نشكل أشكالا جميلة بطين أصفر نستخرجه خلسة من مواقع حفر "الطريق الجديدة"، هذه السعادة لم تجعلني أصغ جيدا لوصايا والدتي وسبابتها تعلو صعودا وهبوطا.
- إياكم ...... الحديث .......... عيب ............... شقاوة .............. البيوت أسرار.
كفرقة عسكرية مدربة، اتخذ كل منا موقعه في السيارة، التي احتشدنا فيها احتشاد سردين يحترم نفسه داخل علبته، استغلال أمثل للمساحة، مكاني المفضل دائما وقوفا بين كرسي السائق ومجاوره، أشاطر إخوتي وأخواتي الثمانية ترف التفكير في اتجاه واحد: اللقاء بالأقارب والأصدقاء، ضيق السيارة وانعدام التكييف، والمطبات، لم تكن ضمن مفردات التذمر خلال تلك الحقبة، بل ولم يكن التذمر خيارا مطروقا أساسا.
ساعتان تقريبا، ليتوقف محرك السيارة أمام منزل عمتي في قرية الطشاشنة، حيث يحمل كل بيت تقريبا لقب الطشاني، المحبوب، الطاهر، مختار، امحمد، خالد، مغادرة السيارة فن ونظام بدوره حتى لا نتدافع، إما النظام أو "الشبشب" لاحقا، النظام أكثر احتراما، وأقل لهيبا حتما.
ثمة مرأة مسنة غاية في الطيبة في منزل عمتي، هي والدة زوج عمتي على ما أذكر، ضريرة، كانت تصر على منحي دراهما كلما دخلت وعدت للدخول مجددا، للمكان ذاته عبق وحضور، يخيل لي أحيانا أنه سيفتح صدره لنا حتى في غياب عمتي.
جلوس مؤقت على لحائف ناعمة مكسوة بالنطع تشاطر الشوك أثرا تحت وطأة لهفة الخروج، إن هي إلا ثوان، لأشق طريقي خارجا.
الجيران يتوافدون على منزل عمتي للتهنئة بعودة والدي من السفر، "غاب وجاب" كما يقولون، لا أستطيع البوح بما أحضره معه لسبب ستعلمونه لاحقا، يكفيني أنني سألتقي زياد وعبد الحفيظ واسماعيل وابراهيم وأشرف وووووووو.
- أهلا مراد، حمدا لله على سلامتكم.
ألتفتُ لأرى أمامي ........... جارة عمتي، هي قريبتنا بشكل ما، سُررت لأن القرابة الأسرية لا تخضع للتدريس ولا للإمتحان لأنني سأكون جديرا بحمل "طاجين كعك" بامتياز حيالها، كنت أناديها خالتي على غرار كل النساء اللاتي لسن عماتي.
- هل تود اللعب بسيارة ...........
كادت عيناي تخرجان من محجريهما فرحا، وجدت نفسي أسبقها إلى المنزل وهي تعدو خلفي للحاق بي ضاحكة ومن خلفها ابنها (أستميحكم عذرا في استعارة اسمين خياليين لهما حفاظا على خصوصيتهما، فلنقل الخالة "هند" و"عُتبة"، لا تسألوني لماذا من فضلكم، هذا ما جادت به قريحتي الآن وحسب).
نظرة نارية منها تجاه "عتبة".
- إذهب وأحضر سيارتك.
صاغرا، ذهب لإحضار سيارته كي ألعب بها، هي سيارة بلاستيكية متينة، ذات دواستين يمكن دوسهما بالتبادل لتتحرك السيارة ويتكفل المقود بتوجيهها، "تاكايا تودوروكي" كان ليغار مني حتما وأنا أجري بها دون ضرر يذكر، أصابع "عتبة" فقط تقطع الطريق أمام السيارة وصوته يتداخل مع خلفية المشهد، لماذا يبكي؟ لا وقت عندي للانشغال بشيء آخر، فقط أنا و"تودوروكي الخاصة"، صوت خالتي "هند" السائل يشتتني قليلا، أصابع "عتبة" تقطع الطريق مجددا، صوت بكاءه يعلو من جديد دون أن أعلم السبب.
- ماذا أحضر والدك من مصر؟
الحق أن انشغالي باللعب صرفني حتى عن تذكر إجاباتي، هواية "عتبة" الغريبة في البكاء اليوم ساهمت في تشتيت تفكيري ومتعتي، ولكن بشكل ما، أفلح عقلي الباطن في تقديم إجابات لا أعلمها حقا، لماذا يصر عقلي على استحضار مشهد والدتي وهي تتهددنا قبل المجيء إلى تاجوراء؟
اللحظات الرائعة تنطوي سريعا كعادتها، ساعة ونصف مضيا كلمح البرق، لأنزل لاهثا من السيارة وأسأل "عتبة" إن كان يود اللعب معي في الخارج، يبدو أنه قضى وقتا رائعا على طريقته، متى أستطاع إدماء أصابع قدميه؟ مواهبه غريبة دائما على كل حال، استأذنتها بكل أدب للمغادرة فأذنت لي وهي ترمم أصابعه و"تدعو" على أحد ما.
عادة استثنائية مازلت أمارسها كلما ذهبت هناك، حتى الآن، ثمة جراج يطل على "جنان"، ذلك الجنان يبدو لي سحريا دائما، به شجرة برتقال، لا أعلم لماذا أراها مورقة مثمرة على الدوام، يجب أن أرى ذلك الجنان وتلك الشجرة، وأشعر أنهما في عالم مواز لا إنس فيه، يخيل لي أحيانا بأن الشجرة تحادثني، فأهرب فزعا وسرورا، محاذرا المرور قرب بئر تتوسطه شجرة نخيل نَمَت في قاعه، ليستوي "جريدها" مع مستوى الأرض حولها.
عدت للانغماس في الركض واللعب والرسم وتشكيل الطين، لتأتي تلك اللحظة التي لا بد منها، العودة إلى طرابلس، خطب ما بوالدتي، صحيح أنها تبتسم، تجامل، ولكن شيئا ما يضيق بها وتضيق به، بضع دقائق لنتخذ مواقعنا في السيارة، ويهدر محركها، صوتها يعلو لمناداتنا "فردا فردا" على غرار "نداء الصف"، لتدير التويوتا "تاج" رأسها نحو الطريق، وليبدي السبب رأسه بدوره، رويدا رويدا.
الخالة "هند" استطاعت تسلق الأسوار المنيعة التي حاولت بها أمي حجب طبيعة الأغراض التي جلبها والدي معه من مصر، كانت أمي حريصة على عدم ذِكرها، مراعاة لمشاعر الآخرين الذين قد يستحضرون الشعور بالعوز حينها، ودرأً لشبهة التباهِ عنها وعن والدي، كلنا نعلم أن "رأسمالها" هو احترام خصوصية الآخرين ومشاعرهم، من الذي هتك هذا السر؟ وجعل أمي محرجة أمام فيض "المعلومات" التي باحت بها الخالة "هند" أمام أمي وعمتي وجاراتها في دقة تحسدها من أجلها مخابرات العالم؟
- هل ذهب أحدكم اليوم إلى منزل الخالة "هند"؟
كنت الوحيد الذي رفع يده، ليبدأ الدم بالتصاعد إلى رأسي، مفردات وددت لو لم أتذكرها تلك اللحظة، مفردات تجتمع على هيئة أسئلة، وإجابات، السؤال الأخطر لم أسمعه اليوم بعد، ولكنه يشارف على الوصول:
- هل سألتك عما أحضره والدك؟
- نعم.
وهل أجبتها؟
لا مجال للإنكار، لم أسمع بعد عن جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان بعد، وفي جميع الأحوال، هي بعيدة كل البعد عنا في هذه اللحظة، والكذب سيد الخطايا حسب ناموس منزلنا.
- نعم.
هل جربت تلقي صفعتان في آن واحد، عن اليمين وعن الشمال معا؟
نعم، هذا ما حدث، وقوفي بين المقعدين، جعل خيار صفعي مريحا وسهلا، عيناي تتأملانني عبر مرآة السائق، كان وجهي المشدوه أشبه بقطعة لحم "هامبرجر" بين كفي والداي، لتضج السيارة بضحكهما وضحك أشقائي، وددت لو شاركتهم الضحك لو لم أنشغل بالبكاء.
**************
خطرها على أسرار الدولة، واستدراج واستمالة النخب.
أظهر الكل ..عندما أيقظتني أمي ذات جمعة
ثمانينية، كنت أعلم السبب مسبقا، كان حرصي على مشاهدة كارتون "بسيط"
خلال برنامج "صباح الخير أول جماهيرية"، كفيلا بأداء مهمتي على وجه
السرعة: شراء الخبز من مخبز ميزران.
ناولتني خمسة دنانير على غير العادة، لأدرك فوراً أن المهمة خاصة جدا هذه المرة، لاشك في هذا، هي مقتنعة بي على نحو خاص دونا عن أشقائي الست، فيض من حماس يستحوذ على مشاعري، دقائق وكنت في طريقي، أصابعي تبرز خارج شبشب شقيقي أشرف، ربما استحضارا لحيثيته كأخ أكبر ود ...
عندما أيقظتني أمي ذات جمعة ثمانينية، كنت أعلم السبب مسبقا، كان حرصي على مشاهدة كارتون "بسيط" خلال برنامج "صباح الخير أول جماهيرية"، كفيلا بأداء مهمتي على وجه السرعة: شراء الخبز من مخبز ميزران.
ناولتني خمسة دنانير على غير العادة، لأدرك فوراً أن المهمة خاصة جدا هذه المرة، لاشك في هذا، هي مقتنعة بي على نحو خاص دونا عن أشقائي الست، فيض من حماس يستحوذ على مشاعري، دقائق وكنت في طريقي، أصابعي تبرز خارج شبشب شقيقي أشرف، ربما استحضارا لحيثيته كأخ أكبر وددت لو كنته، كعادتي أقبض على النقود بقوة حتى لا يراها لصوص لم أراهم ولم ألتقيهم يوما، ولأنني كنتُ "شاطرا" في الحساب، استطعت تحديد عدد الأرغفة المطلوبة، نصف الدينار يكفي لشراء عشرون رغيفا، الخمسة دنانير تكفي لشراء مائتي رغيف.
أقف في الطابور المخبز مزهوا بنفسي، كيف لا وأنا سأشتري خبزا بخمس دنانير كاملة، هذا حدث يفترض أو يؤرخ له وبه، كنت أنتظر دوري بفارغ الصبر، ذلك العجوز المصري الطيب سيراني هذه المرة حتما.
أخيرا وقفت عنده.
- عاوز كام "فردة".
- بخمسة دينار.
عيناه تتسعان، والواقفون خلفي يحتجون مخافة انتهاء "الكاريلو" بسببي.
صوت العجوز المتشكك يتهدد مهمتي:
- انت متأكد يا بني؟
الخمسة دنانير ترتطم بسطح الطاولة لتنسف شكوكه وآمال الواقفين خلفي، متنفِسا في زهو هواء المخبز كله تقريبا، والأصوات الحانقة تبرطم خلفي:
- هذا شن قصته؟
- تي كيف هكي؟
- هذا شن يقولوله؟
- من وين طلع ها الفرخ؟
كنت فخورا بحديثهم عني، اتساع فتحتي أنفي سمح بنزول ما سينسف "برستيجي"، تنشقته بنجاح، متنحنحا حتى أداري الصوت، الخبز يجد طريقه إلى سطح الطاولة لأباشر جمعه في "البورزة"، حرارة الأرغفة تكفلت باستعادتي حجمي وواقعي، لأزفر الأكسجين الزائد "توحوحا"، البعض يبتسم متشفيا خلفي ولا يجد غضاضة في الإفصاح:
- يستاهل.
في الواقع، هاجس جديد يشغلني الآن: كيف سأستطيع إيصال الخبز إلى المنزل تباعا بسرعة تكفل لي مشاهدة "بسيط"؟
انتشلني صوت أعرفه:
- مراد كيف بتوصل الخبزة؟
ثوان وكنت أنطلق رفقة جارنا الذي يكبرني بعامين تقريبا، ويمتلك اختراعا أحبه في شدة "دراجة"، ربما كان "نبيل" أو "نضال"، المهم أنني كنت أحتضن "البورزة" والمسافة تنطوي تحت الدواليب، ثمة أصوات مكابح عن اليمين والشمال، لا وقت لدينا للنظر، فلينتظر الجميع ولا تنتظر أمي.
وصلت إلى البيت، دققت الجرس، لتفتح والدتي الباب:
- أوقظي إخوتي ليتلقو الخبز ويفرغوه ويعيدو لي "البورزة"، بقية الخبز تنتظر في المخبز.
نظرة الذهول في عينيها، جاري نبيل يتلصص النظر في فضول.
- خبز ماذا، لماذا كل هذا الخبز؟
- بخمسة دنانير كما طلبت مني.
- لم أطلب منك خبزا بخمس دنانير، أعطيتك خمسة دنانير لتشتري خبزا بخمسين درهما كالعادة وتعيد الباقي، لم يكن عندي خمسون درهما لأعطيك إياها.
عيناي تتسعان، ولساني يحاول ترجمة مخاوفي.
- ولكن، ولكنني اتفقت مع صاحب المخبز.
- يمكنك توضيح الأمر له.
- ما الذي سيقوله؟ "ما عنديش كلمة"؟ "خلاص توا".
- إبق أنت في المنزل، سنصحح الأمر.
دخلت إلى المنزل، أخفيت رأسي تحت البطانية كنعامة أصيلة، الخبز الزائد عاد ومعه المبلغ المتبقي بدوره، كرامتي فقط صارت مهدورة، ربما تحتاج إلى بعض الصلاة كي ينساني الجميع.
*****************
عندما خرجت لشراء الخبز في الجمعة الماضية، كانت شقيقتي قد أوصتني ليلة الخميس أن أشتري خبزا بخمسة دنانير، شقيقاتي قررن المبيت عند والدتي، ويحتجن خبزا كافيا للأسرة الكبيرة كلها للإفطار، ابتسمت في سري، وقد تأبطتُ سراً.
اشتريت الخبز، طرقت الباب، شقتاي كستار منفرج ليس بوسعهما الانطباق، الباب يفتح، أصل إلى الداخل.
- صباح الخير أمي. (مقبلا رأسها ووجنتاها ويدها كعادتنا).
- نعم مراد.
- خبز بخمسة دنانير، ألا يذكرك هذا بشيء؟
ضاقت عيناها قليلا، غير أن الحدث ما كان لينسى بسهولة، ابتسمت، لتتحول الابتسامة إلى ضحكة متبادلة.
- هذه المرة لا حاجة لإعادة خبز زائد ولا استعادة مال مفقود.
كان ذلك الطفل داخلي سعيدا بالثأر لنفسه من نفسه، دون أن يحاول الكهل داخلي أيضا أن يثنيه، فالضحك بات ضيفا استثنائيا هذه الأيام، مشاطرا الأزمات حالها وشحها.
غير أن ثأري كان فادحا، الخمسة دنانير التي كانت كفيلة بشراء مائتي رغيف منذ ثلاثة عقود، باتت تشتري عشرون رغيفا فقط اليوم (جماعة فيه خبزة الخمسة بدينار، مش وقتكم توا ).
لم يدر بخلد أحد من حرس بوابة إذاعة شارع النصر ذلك اليوم، بأننا قد قررنا الانقلاب، انقلابا مكتمل الأركان، البراءة شيء سهل اصطناعه وخداع الآخرين به، أحياناً لا تحتاج أكثر من أن تكون على سجيتك.
عندما اجتمعنا في تلك القاعة، لم نكن بحاجة إلى تسويغ أسباب الانقلاب، اتفقنا أنه تمادى كثيرا، ارتكب مخالفات بالجملة، لم يكن هذا برنامجه الذي آمنا به وتعاونا معه من أجله، لكن انحرافه عن النهج، صار موجبا للمعالجة بأي ثمن، انتقلنا مباشر ...
لم يدر بخلد أحد من حرس بوابة إذاعة شارع النصر ذلك اليوم، بأننا قد قررنا الانقلاب، انقلابا مكتمل الأركان، البراءة شيء سهل اصطناعه وخداع الآخرين به، أحياناً لا تحتاج أكثر من أن تكون على سجيتك.
عندما اجتمعنا في تلك القاعة، لم نكن بحاجة إلى تسويغ أسباب الانقلاب، اتفقنا أنه تمادى كثيرا، ارتكب مخالفات بالجملة، لم يكن هذا برنامجه الذي آمنا به وتعاونا معه من أجله، لكن انحرافه عن النهج، صار موجبا للمعالجة بأي ثمن، انتقلنا مباشرة إلى التفاصيل، خططنا لكل شيء وأيدينا على قلوبنا، بعضنا كان خائفا، فالانقلابات ليست حدثا تشهده أو تشارك فيه كل يوم، وثمن كشفه لن يكون هينا، حتى أن بعضنا لم يتمالك نفسه فانزوى متظاهرا بأنه غير موجود، وربما تمنى لو كان مزهرية أو مقعدا، بعض آخر تطوع ليقلل إضاءة القاعة، لم نشغل أنفسنا بالبحث عن سبب، ربما كانت مقصده إضفاء المزيد من الرهبة للحدث، أو الحرص على عدم اطلاع أحد على ما نخطط له، الاطلاع على ما نكتب لن يجعل الخاتمة سعيدة حتما، ثمة من تطوع متلصلصا قرب الباب، للجدران آذان كما يقولون، لسنا على استعداد لاستبدال ملامح الخطورة المرتسمة قسرا على وجوهنا الآن بملامح الهلع، الحق أنني كنت مسرورا داخليا للشعور بأنني متآمر، الغايات السامية كفيلة – أي أنها ستتكفل، إقراءها على النحو الصحيح أرجوك، لا علاقة للفيلة بما نحضر له- بجعل العسير يسيرا.
انتهينا من التفاصيل بالكامل، لم نغفل حتى عن النشيد الجديد، لم يبقى شيء سوى فرصة سانحة أمام الكاميرا، ونعلن عن أنفسنا وما سنفعله في عهدنا، قبل أن يدخل أ.شعبان الدويبي ويعيد إضاءة القاعة:
مساء الخير يا أطفال، خيركم مكوكشين على بعض؟
من كواليس برنامج حديقة الحروف للأطفال، أواخر الثمانينيات، بتصرف.
أظهر الكل ..النهاية الثانية:
لطالما احترت في أمرين: من أين تأتي القريحة بالألحان؟ هل تجود بها خلايا الملحن الرمادية؟ أم أنها مجرد هوائي يلتقطها من بُعد آخرً، تأتي منه لتعود إليه بعد أن تغادر الآلة الموسيقية وتضمحل دون عتبة السمع الدُنيا لآذاننا؟
هذا الشاب لا يعزف، هذا الشاب يفتح بوابة نجمية تفصلنا عن عالم آخر، عالم يقف الزمن عند عتباته، فلا تستطيع التمييز؛ هل جاءت الألحان منه أم ذهبت إليه، ألحان تشكلت في هيئة المضمون، أرى أمامي وجه الربيع المرح، أراه ...
النهاية الثانية:
لطالما احترت في أمرين: من أين تأتي القريحة بالألحان؟ هل تجود بها خلايا الملحن الرمادية؟ أم أنها مجرد هوائي يلتقطها من بُعد آخرً، تأتي منه لتعود إليه بعد أن تغادر الآلة الموسيقية وتضمحل دون عتبة السمع الدُنيا لآذاننا؟
هذا الشاب لا يعزف، هذا الشاب يفتح بوابة نجمية تفصلنا عن عالم آخر، عالم يقف الزمن عند عتباته، فلا تستطيع التمييز؛ هل جاءت الألحان منه أم ذهبت إليه، ألحان تشكلت في هيئة المضمون، أرى أمامي وجه الربيع المرح، أراه حقا يقينا لا يوصف في مواجهتنا، باسما، بينما تختفي عوارض الشتاء في الأفق، لا بد أن الشتاء كان هنا قبل حضورنا، الألوان البهيجة تخترق وتلهب حواسي وإدراكي، الألوان ليست كالألوان، هناك ألوان تقع خارج طيف إدراك بصري، أدركها لأول مرة، ثمة أغان لم أسمعها من قبل مصدرها الغابات، رياح غربية رخية تهدينا أنساما عطرية، قلبي الذي توقف عن الحب منذ وفاة "جوزيفين" ينبض بالحب، هل يمكن أن ينبض بالحب للحب ذاته حتى في غياب محبوب؟
ثمة بلبل يتغنى كقيثار، هل رأيت مرجا يضحك من قبل؟ هذا المرج يضحك، نبادله الضحك، نعم، لم أكن وحدي، رفاق الرحلة يشاركونني هذه التجربة التي أعلم أنها ستنتهي بعد ثوان، فقصيدة "وجه الربيع المرح" قصيرة للأسف، نعم، ها هو سرب الطيور يرتفع عبر الغابات المسرورة، لا تتوقف بالله عليك، "كارل أورف" نفسه لم يبلغ هذا الحد، ولم يعلم أنه كان مجرد ناقل خبر نقف الآن شهود عيان عليه قبل أن...
عندما توقف الكمان عن الشدو، توقفت حواسنا معه، لم نمتلك القدرة على استخدامها، بعد أن دفعتها الرحلة إلى تخطي حدودها لتثقل إدراكنا بتداعيات لا تقل عن تداعيات الانفجار الكبير ذاته، كنا نلهث حقا، منتشين، رغم عودة أجسادنا إلى المقاعد، إلا أن أثر التجربة المنعش لم يتبدد بعد، نتبادل نظرات الذهول.
أما هو، فقد وضع الكمان جانبا دون أن يفتح عيناه، ارتفاع صوت تصفيق خافت لمن استطاع مغالبة إجهاده قبلنا، أكفف أخرى استطاعت مجاراته، لتضج قاعة الانتظار بالتصفيق، وجهه يحمر خجلا وهو يطرق رأسه، عدت إلى عناقه من جانب واحد، لم أستطع أن أتفوه بكلمة معه، استأذن متجها إلى دورة المياه، كالمسحور تبعته، يجب أن أقول شيئا له.
عندما وصلت إلى هناك، رأيته يقف جوار نافذة كان قد فتحها، لم يلتفت لي، سمعت صوته داخل رأسي:
- سنتحدث بشأن "جوزيفين" لاحقاً "هنريش".
قبل أن يطير بعيدا، نعم يطير، حرفياً، تاركا إياي وراءه متسائلا حول أمر آخر:
أي تجربة كنا سنخوضها، إن وقع اختياره على قصيدة "الحظ سيدة العالم"؟
هذه النهاية إهداء إلى الفارابي رحمه الله، الذي أضحك وأبكى وأنام مجلسا ليتركه بهدوء.
مراد بلال، ليلة جمعة، 17 - 11 - 2017
أظهر الكل ..كمان
(قصة قصيرة)
متعددة النهايات
أُداعبُ أوتار الكمان بأسلوب النبر كعادتي، مُزَجِّياً وقت الانتظار في صالة المغادرة بمطار "فيينا"، الحيرة رفيقي الدائم تجاه من يتخمون أنفسهم بالحقائب وكأنهم يستعدون لمغادرة الكوكب أو الحياة، لماذا لا يكتفي الناس ببضعة أغراض، وستتكفل مواد التنظيف باستعادة بريقها كل مرة؟ وحده الكمان رفيقي على الدوام، الكمان الذي تعتق حتما بعد أن شدى مئات المرات بألحان لا تختلف عن الطائرة التي ننتظر أن نستقلها نحو السحاب، كلاهما يحلق بي بعيدا.
لم تفقد "أورك ...
كمان
(قصة قصيرة)
متعددة النهايات
أُداعبُ أوتار الكمان بأسلوب النبر كعادتي، مُزَجِّياً وقت الانتظار في صالة المغادرة بمطار "فيينا"، الحيرة رفيقي الدائم تجاه من يتخمون أنفسهم بالحقائب وكأنهم يستعدون لمغادرة الكوكب أو الحياة، لماذا لا يكتفي الناس ببضعة أغراض، وستتكفل مواد التنظيف باستعادة بريقها كل مرة؟ وحده الكمان رفيقي على الدوام، الكمان الذي تعتق حتما بعد أن شدى مئات المرات بألحان لا تختلف عن الطائرة التي ننتظر أن نستقلها نحو السحاب، كلاهما يحلق بي بعيدا.
لم تفقد "أوركسترا برلين الفيلهارمونية" أَلَقَهَا عندي بعد، لا أزال أشعر وكأنني حديث العهد بها، لا زالت تثير الرعدة في أوصالي لتهتز لها أوتار كماني كلما انتظم عقد جوقتنا فيه، مازِلتُ أعشق بدن الكمان وروحه، بل وكل خدش فيه، ومنحنيات "ستراديفاري" الرشيقة بأجزاءها التسع وسبعين، أتألم كلما ترجم التقادم علاماته على أوتاره، أداعبها كمن يغزل الحرير بِحُنُو، بل وأعشق الرائحة المنبعثة من جوفه، لماذا تتبدد الرائحة من ذاكرتي ولا تحتل ركنا دائما فيها؟ قلبت الكمان لأنعش ذاكرتي برائحته مجددا ...
(لا يعلم كيف، ولكنه وجد الكمان يخضع لسلطان فيزياء خارجية استحدثها ارتطام طفل به، تحررت طاقة الحركة من الطفل ليكتسبها الكمان فينطلق من يده كعصفور يتوق للحرية، لا مجال لتوقع ما سيحدث للكمان، "إدوارد لورينتز" نفسه ما كان ليحدد مسار تحليقه ولا محل سقوطه، المشهد وقلبه يتوقفان، كمانه سيعزف أقصر ألحانه بعد ثوان ليتركه وحيدا، وجه والدة الطفل المذعور وأناملها تكمم فمها لا تزيد المشهد إلا كارثية.)
ناولني ذلك الشاب الشمال أفريقي الكمان، أَلْتَقِفُهُ وأضمه لي كمن يضم طفلا كاد أن يدهسه قطار، لولا هوسي الشديد بسلامته لغمرته بدموع الفرح، وضعتُ الكمان جانبا ووقفت لأحتضن الشاب وأغرقه بالدمع بدلا عن الكمان على سبيل الشكر، والدة الطفل ورفاق المغادرة شاطرونني الفرح، والحيرة والدهشة حول المعجزة التي التقط بها الشاب الكمان قبل وقوعه، لم يكن الوقت يسمح لتصويره، لربما سيفعل هذا لاحقا أحد مراقبي كاميرات المراقبة المنتشرة عبر المطار، الشاب يثير المزيد من شجني وأريحيتي بحياءه، لا يمكن أن أتركه دون أن أُجلسه قربي لأحادثه على سبيل الامتنان، صحيح أن هيئة الشاب وسلوكه تشيان باختلاف ثقافته ورساخة حاجز اللغة بيننا، وجدت نفسي أُتمتم مستحضرا رصيدا من عبارات شكر إنجليزية وفرنسية وإيطالية على أمل أن تصيب أحدها مستقبلات الاستيعاب لديه، عيناه الباسمتان تشيان بالفهم، مجيباً بالألمانية:
- لا داعي للشكر أرجوك، مازال بإمكانكما رؤية "وجه الربيع المرح" معا.
حالة الدهشة والإعجاب تنتشلني من الشجن الذي تملكني قبل قليل، متسائلا في نفسي: كيف يمكن لقريحة وحنجرة هذا الشاب أن تلوك الألمانية لغة كما يلوكها سكان مدينتي تحديدا؟ وثقافة عندما تعمَّدَ صياغة هذه العبارة ليشي بأن ثقافته تسع كلمات "كارمينا بورانا"؟ عيناه واثقتان خجولان كآري صميم، ولكنه ليس آرياً، عَقَّبت:
- فِعلا بعد أن كاد "لينتحب الجميع معي"، "هنريش".
- "جاد".
نعم، عيناه تشيان مجددا بإدراكه يقينا ما قاله وأجبته به، هل تتعدى معرفته مجرد الكلمات، من أنقذَ الكمان جدير أن يحمله، ناولتهُ له فتناوله باسماً وقد أدرك غايتي، مفردة متساءلة طرحها وعيناه تنظران صوب حافظة الكمان وكأنه يعرف الإجابة:
"سوردينو"!
انحيتُ ألتقطُ كاتم الصوت، متعجبا في قرارة نفسي؛ "كارمينا بورانا" غير جهيرة!
هل يدفعه خجله الظاهر لاستخدام كاتم الصوت! بل ويعرف "سوردينو" أساسا؟
أنامله تثبت السوردينو على فرس الكمان، يريح ذقنه وكأنه "أندري ريو" ذاته، يسدل جفنيه لينفصل عن العالم من حوله كما ينبغي لأي خجول أن يفعل ليتملص من قيود الأنظار من حوله، قلبي يخفق في شدة منتظرا لونا بكرا لم أسمعه من قبل.
النهاية الأولى: خيره حط الكمان وناض؟
مراد بلال، عشية خميسية 16-11-2017
أظهر الكل ..